سيد سمير قاسم

11مليوناً ذوو احتياجات خاصة فى مصر، يعيشون كابوساً يومياً فى كل تفاصيل حياتهم البسيطة: نزول الشارع، ركوب المواصلات العامة، السير فى الطرقات، ويزيد الكابوس رعباً إذا ما تعلق بمصالح حكومية، وتشتد قتامته، إذا كان ذوو الاحتياجات الخاصة يبحثون عن عمل، أو سكن.

11 مليوناً ذوو احتياجات خاصة فى مصر، تلقى على آذانهم يومياً كلمة «معاق»، وتمارس ضدهم بحسن نية انتهاكات يومية، اختارت «المصرى اليوم» أن تعيش كابوس أحدهم لمدة يوم، تنتقل معه فى الشوارع، وتطرق معه أبواب المؤسسات الحكومية بحثاً عن عمل ومأوى.

«أنا عايز أعيش»، جملة لا يمتلك إنسان أمام سماعها إلا أن تسرى فى جسده رعشة بعد أن يقولها بكل عفوية، تستدعى على الفور الإعلان الذى تظهر فيه بنت صغيرة اسمها صهيبة - لديها ثقب فى القلب - للدعاية لإحدى المؤسسات الخيرية، ذلك الإعلان الذى تقول فيه نفس الجملة.

لا يظهر إن كان سيد سمير قد رأى هذا الإعلان أو سمعه من قبل، لكن ما يظهر يقينا أنه لم يكن يدعى أو يبالغ حينما أردف: «أحلم بأن أعيش حياة كريمة، ويكون لى وظيفة، وبيت وأولاد وأسرة، زيى زى أى واحد تانى، وأن تنظر إلى الدولة بعين الرحمة، وألا يقسو على المجتمع ليزيد من معاناتى». سيد، واحد من بين 11 مليون معاق فى مصر - بحسب تقديرات الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية - مازالوا يحلمون بحقوقهم، فى توفير وسائل مواصلات آدمية، ووظيفة كريمة، ومسكن يؤويهم، فى ظل معاناة حقيقية مع إعاقة أصعب ما فيها أنه لا مجال لنسيانها، فالجسد يذكرهم بها كلما أرادوا النسيان.»


«المصرى اليوم» تفتح ملف هؤلاء، وترصد بالصور كيف تكون شكوى ومعاناة المعاقين، من البطالة والمواصلات وسوء الطرق وطوابير الروتين ودوخة المصالح الحكومية من خلال يوم فى حياة واحد منهم. لم تمض إلا لحظات حتى أقبل به أخوه مستقلا «التوك توك» الذى يعمل عليه، حرارة الشمس لم تمنعه من أن يخرج من بيته بمصاحبة كرسيه الذى لم يفارقه منذ سنوات، نزل أخوه من «التوك توك» بعد أن أوقفه بمحاذاة الرصيف.

عدل سيد سمير قاسم من جلسته وثبت حذاءيه فى قدميه بعد أن خلع أحدهما أثناء انتقاله للكرسى، وتأكد من أن الأمور على ما يرام، قبل أن يشكر أخاه الأصغر، ويطلب منه الرحيل، بعد أن كان الأخ يريد أن ينتظر قليلا ليطمئن هو الآخر أن الأمور على ما يرام. «شفت الموضوع صعب إزاى» قالها سيد وهو يحرك الكرسى بعد أن ودع أخاه، ذلك الكرسى الذى يجلس عليه منذ قرابة الـ 30 عاما، بعد أن أصيب بمرض
(شلل الأطفال) - مرض فيروسى يغزو الجهاز العصبى ويصيب الخلايا الحركية فى النخاع الشوكى بالتلف مسببا الشلل - فى القدمين إثر ضربة حقنة خاطئة عقب ولادته بشهور.

يجلس على كرسى متحرك عادى، مثل غيره من الكراسى التى تنتشر فى مصر حيث إنها الأقل تكلفة، ويعيبها ثقل الوزن، وصعوبة الطى، بالإضافة إلى وجود العجلات خلف مسند الظهر مما يحد من اعتماد المريض على نفسه أثناء الدفع.


بعد مرور وقت طويل فى انتظار «ميكروباص» ينقله إلى محافظة الجيزة القريبة من جامعته التى تخرج فيها«القاهرة»، سأل سيد: «هل تعلم ما هو شعور المعاق حين ينتظر وسيلة المواصلات لفترة طويلة، وهو يعلم أنها عندما تأتى قد لا يستطيع ركوبها» ثم يضيف بأسى واضح فى نبرة صوته، وهو يشير إلى الأتوبيسات والميكروباصات التى تمر أمامه دون أن تعيره أى اهتمام، «النقل العام من إحدى وسائل التعجيز للمعاقين فى مصر، وإذا كان انتظار وسيلة مواصلات أمراً صعباً، فالركوب أمر أصعب بكثير، توقف سيد عن الحديث عندما لمح ميكروباص من بعيد يبدو وجود أكثر من مكان خال به، قام بالإشارة للسائق لكى يتوقف، واسترق الأخير نظرة إلى الكرسى قبل أن يتوقف تماما، دفع سيد بالكرسى إلى أن وصل للباب، ثم توقف وطلب منى أن أقترب، ثم قام بلف ذراعيه حول رقبتى، قمت على أثر ذلك بوضع يدى تحت إبطيه ورفعه إلى أول كرسى فى الكنبة الأمامية بالميكروباص، ثم طويت الكرسى متبعا تعليماته: «دوس فى النص مكان ما كنت أجلس، وضم الذراعين بعد ذلك»، وضعت الكرسى بجوار سيد، قبل أن يبادر السائق،:
«حط الكرسى ده فوق يا أستاذ، ده مكان ناس بتقعد فيه».

«حطه على الشبكة» قالها سيد مشيرا إلى الشبكة المثبتة فوق الميكروباص، بعد أن جلس بجوار رجلين، ولكن ذلك أيضا لم يعجب السائق الذى قال:
«وده مين اللى هيقعد جنبه ده، تعالى أنت هنا يا باشا».


يتوقف السائق على جانب الطريق معلنا عن الوصول إلى مقر محافظة الجيزة. بعد معاناة مع سائقى العربات المسرعين استطاع المرور إلى الطرف الثانى للشارع وأصبح أمام مبنى المحافظة، كان سيد قد اعتاد المجىء إلى هنا منذ 3 سنوات، توجه إلى مكتب تبسيط الإجراءات فى المحافظة، للسؤال على الشقة، بعد أن تجاوز 3 سلالم بمساعدة أحد المواطنين.

«مازلنا فى انتظار نتيجة أوراق البحث الاجتماعى التى تقدمت بها قبل الثورة، وكل الأبحاث التى قدمها آخرون توقفت بسبب أحداث الثورة، وسوف تنتظر فترة تتراوح بين شهرين إلى ثلاثة شهور، إلى أن يتم تجميع الأبحاث مرة أخرى».. قال موظف محافظة الجيزة بشكل روتيني. أخبره سيد بأنه قام فى السابق بعمل أكثر من بحث، فرد عليه الموظف: «اذهب إلى مجمع الجيزة، واسأل فى إدارة الإسكان عن بحثك عند الأستاذ مصطفى».

خرج سيد من المحافظة، ووقف ينتظر تاكسى بعد أن رفض ركوب الميكروباص «لأننا هناخده من وسط الخط مش من أوله وممكن ننتظر ساعات دون نتيجة». بعد أن نزل من التاكسى بنفس المشقة التى تحملها أثناء ركوبه، لم يستطع دخول مجمع الجيزة بسبب وجود رصيف عال أيضا، قام بالسير بمحاذاة الرصيف حوالى 20 مترا، وعندما يئس من وجود أى فتحة قام بالعبور من فوق الرصيف، وعندما وصل إلى باب المجمع بدت عليه السعادة عندما وجد «رامب»، أو كما يسميه «مزلقان» استطاع من خلاله الصعود بسهولة إلى المبنى، وقد كان الأول من نوعه الذى يراه منذ أن بدأت رحلته.»


«فوت علينا بعد العيد، أو سيب رقمك واحنا هنبقى نكلمك لو فيه أى حاجة جديدة».. هذا ما قاله الأستاذ مصطفى، ودون أن يلتفت إليه مرة أخرى أو يعيره أى اهتمام واصل حديثه مع أحد الأشخاص، ولم يرد على أى من الاستفسارات التى ساقها سيد إليه. أصيب سيد بخيبة الأمل، فهو على الرغم من كل هذه «الدوخة» لا يعرف الآن تحديدا ما هو مصير الشقة التى وعدته بها المحافظة، متسائلا إن كان سيكتب بحث حالة اجتماعية مرة أخرى كما أخبره الموظف فى مكتب تبسيط الإجراءات، أم يكتفى بالانتظار إلى ما بعد العيد ثم يقوم بتحمل مشقة كل هذا الطريق مرة أخرى.

«أرجو من سيادتكم التكرم بالموافقة على تعيينى ضمن نسبة الـ5% للمعاقين، حيث إننى معاق ومريض بشلل الأطفال بالساقين، وأتحرك بواسطة كرسى متحرك، وليس لدى أى مصدر رزق، مع العلم أننى حاصل على شهادة ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة
عام 2006-2007» كان هذا هو نص الطلب الذى تقدم به سيد إلى رئيس جامعة القاهرة، منذ أربع سنوات لكى يتم تعيينه فى أى وظيفة، وإلى الآن لم يجبه أحد. يقول سيد وهو فى طريقه إلى الجامعة «قدمت فى جامعة القاهرة لأنها أقرب مكان لسكنى، وأصلحها للعمل، والسكن فى المدينة الجامعية يصلح لذوى الاحتياجات الخاصة، بسبب عدم وجود حواجز، أو أرصفة». يضيف: «إلى الآن لم يتوفر لى أى عمل، ولم أستطع أن أقابل رئيس الجامعة، بعد العديد من المحاولات، وآخر ما استطعت الوصول إليه هو سكرتارية رئيس الجامعة، ومازالوا يخبروننى منذ أربع سنوات، أن اسمى على الكمبيوتر، وأن على الانتظار بضعة أشهر، ومازلت أنتظر».


واستكمل سيد حديثه قائلا: «الدولة تتعامل معنا على أننا عالة، ونحتاج للشفقة بأى مبلغ مالى، بالإضافة إلى أن نسبة الـ5 % التى حددها القانون لا تطبق فى الهيئات أو المؤسسات الحكومية لأن الغرامة المقررة فى حال عدم تنفيذ تلك النسبة
هى 100جنيه فقط».

خرج سيد من جامعة القاهرة، ينتابه الإحساس بخيبة أمل فى الحصول على الوظيفة، بعد خيبة أمله الأولى فى الحصول على شقة المعاقين من محافظة الجيزة، أخبره أحد الموظفين ويدعى الأستاذ توفيق قبل أن يخرج إن حركة التعيينات سيتم الإعلان عنها فى الجرائد الرسمية، وأن عليه الانتظار «كام شهر» إلى أن يقوم الأمين العام بالجامعة بتعيين المؤقتين، و«كام شهر تانى» إلى أن يوافق على تعيينه.

يدرك سيد الآن وهو عائد إلى بيته بعد قضاء يوم كامل فى التنقل بين المصالح الحكومية، بحثا عن الحياة الكريمة، أنه لم يحن الأوان لها بعد، لا يشعر سيد أن الثورة قد أعادت له أياً من حقوقه المهدرة، صحيح أنه لم يستطع المشاركة بها، لكنه كان يتمناها منذ أن شارك مع زملائه من ذوى الإعاقة فى الاعتصام الذى استمر 87 يوما أمام مجلس الشعب، احتجاجا على ممارسات النظام السابق ضدهم. «لم يحدث أى تغيير» يقولها سيد بعد نفس عميق يبدو أنه قام فيه بمراجعة نفسه قبل أن يكمل: «إذا كنتم العضو الذى يشتكى، فإن باقى جسدنا يتداعى معكم» هذا ما قاله وتعهد به الرئيس الدكتور محمد مرسى، حينما كان مرشحا للانتخابات الرئاسية أثناء لقائه مع عدد من المعاقين وذوى الاحتياجات الخاصة، لعرض مشروع النهضة يوم السبت فى التاسع عشر من مايو الماضى. تمر الشهور والأيام، ويصبح مرسى رئيسا للجمهورية، وأصبح مطالبا بتنفيذ وعده، الذى لا يحتاج إلى 100 يوم لكى يتم تحقيقه، ولكن يبقى حال سيد على ما هو عليه فى انتظار الفرج.