جلست أمام التليفزيون أتابع نشرات الأخبار وما يحدث في بر مصر، وجدت شاشة التليفزيون تكاد تقطر دمًا من حوادث العنف التي ملأت الشاشة، والأغرب هو برامج «التوك شو» التي باتت تعيش على أكل اللحم، فضائيات كثيرة كل همها الآن أكل لحم ما تبقى من فتات الإخوان.

والجزيرة وأخواتها بتن يأكل لحم الجيش والشرطة، وهكذا شعرت بدوار وصداع من الحرب الدائرة وما وصل إليه الحال، وعند سقوط قتيل وقبل أن نترحم عليه نسأل إلى أي فصيل ينتمي، فإما اللعنة إن كان مختلفًا، أو طلب الرحمة إذا كان من نفس فصيلك أو في ذات مركبك.

أصابتني حالة من القرف من جميع برامج التليفزيون السخيفة وأغلقته، وقررت الذهاب إلى مكتبتي المتواضعة لعل طعم القراءة يغير المزاج السيئ الذي هاجمني أمام الشاشات.

الحالة النفسية لم تكن تسمح بمطالعة أي كتب معقدة، لا فكر ولا سياسة، فقررت أن أبدأ بأخف الكلام وألذه وأحلاه وهو الشعر، ووقع اختياري على «محمود درويش» شاعر فلسطين، وبنظرة سريعة على الديوان الذي وقع في يدي وجدت أمامي هذه القصيدة:
وأنتَ تُعِدُّ فطورك، فكِّر بغيركَ
لا تَنْسَ قوتَ الحمام
وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ
لا تنس مَنْ يطلبون السلام
وأنتَ تسدد فاتورةَ الماء، فكِّر بغيركَ
مَنْ يرضَعُون الغمامٍ
وأنتَ تعودُ إلى، بيتكَ، فكِّر بغيركَ
لا تنس شعب الخيامْ
وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ
ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزًا للمنام
وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكِّر بغيركَ
مَنْ فقدوا حقَّهم في الكلام
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكِّر بنفسك
قُلْ: ليتني شمعةُ في الظلام.

لم أجد ما أقوله بعد انتهائي منها غير قولي: الله عليك يا درويش.. وجال بخاطري سريعًا خاطر لو أقابله لقلت له لقد جاء علينا زمن يا أستاذنا والكل لا يفكر إلا بنفسه، جاءت علينا جماعة لا تفكر إلا في الحكم حتى لو احترق العالم من خلفها؛ فالكرسي أهم.. وقلت في نفسي ولم لا استدعي روحه ونتحاور وأقول له كل ذلك وأسمع منه.. فأسرعت إلى غرفتي وتلوت تعاويذي وقرأت طلاسمي، ومن بين سحابة البخور الخفيفة التي تملأ الغرفة جاءني صوته رزينًا هادئًا: السلام عليكم..
قلت: وعليك السلام يا أعظم شاعر.. يا شاعر فلسطين العظيم..

قاطعني قائلًا: بل أنا محمود العادي درويش..
بلا أي ألقاب إذا كنت تريد أن نستمر في حوارنا...

قلت: لك ما تشاء، ولن أغضبك يا محمود العادي درويش، كنت أريد أن أسالك: إيه حكاية الجنيه اللي قابلتك في فلسطين بقى.. هل هي جنيه الشعر؟

قال ضاحكا: لقد أوقفتني جنيه صغيرة وسألتني عن قنبلتي وصلاتي.. فقلت لها لماذا جئت إلى القدس إذن؟.. فقالت لأعبر بين القنبلة والصلاة.. على ذراعى اليمنى آثار حرب وعلى ذراعى اليسرى آثار ربّ... لكنني لا أحارب ولا أصلي.. قالت الجنيه لى ماذا تكون؟.. قلت لها أنا ورقة يانصيب بين القنبلة والصلاة...

قلت: دائما لا يذكر محمود درويش إلا ويذكر معه المقاومة.. ألست القائل «حاصر حصارك لا مفر»؟

قال: نعم، مقاومة الاحتلال ومقاومة الإرهاب لا يختلفان، وقصائدي أرهفت روح الشارع العربي، وزينت أنشطة الطلاب رغم القيود المفروضة على مفردات النضال، وفي حربكم مع الإرهاب الأسود الذي يضرب مفاصل الدولة
لا تنسوا أبدًا:
سقط القناع عن القناع
عن القناع سقط القناع
قد أخسر الدنيا.. نعم
لكني أقول الآن.. لا
هي آخر الطلقات.. لا
هي ما تبقى من هواء الأرض.. لا
ما تبقى من حطام الروح.. لا
حاصر حصارك لا مفر..
اضرب عدوك لا مفر..
سقطت ذراعك فالتقطها
وسقطت قربك فالتقطني
واضرب عدوك بي
فأنت الآن حرٌ وحرٌ وحرٌ
قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة
فاضرب بها، اضرب بها عدوك
أنت الآن حرٌ وحرٌ وحرٌ
حاصر حصارك بالجنون وبالجنون
ذهب الذين تحبهم.. ذهبوا
فإما أن تكون
أو لا.. لا تكون...

قلت: نعاني في مصر من جماعة إرهابية بعد أن سقطت من الحكم بيد شعبها
أشعلت الأخضر واليابس، وراحت تستعدي الغرب على جيشنا...

قال: لن أقول إلا ما قلته حينما تمكن جيش حماس الدموي
وحماس هي من نفس معين الجماعة التي لديكم، من السيطرة على غزة بقوة السلاح..

هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا...
لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟

وهل كان علينا أيضًا أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟ كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء! أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك! أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا - تلك هي دُونيّة المُتعالي، وغطرسة الوضيع!

الهوية هي: ما نُورث لا ما نَرِث.. ما نخترع لا ما نتذكر.. الهوية هي فَسادُ المرآة التي يجب أن نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة!

صمت قليلًا ثم تابع: هل الجماعة تستنجد بالغرب لنصرتها عليكم، ما هذه المهزلة، لقد أعجبتنا النكسة في ذكراها: إن لم نجد مَنْ يهزمنا ثانيةً هزمنا أنفسنا بأيدينا لئلا ننسى!
هل يعرفُ مَنْ يهتفُ على جثة ضحيّته - أخيه: «الله أكبر» أنه كافر إذ يرى الله على صورته هو: أصغرَ من كائنٍ بشريٍّ سويِّ التكوين؟

وما دمنا لا نعرف الفرق بين الجامع والجامعة، لأنهما من جذر لغوي واحد
فما حاجتنا للدولة، ما دامت هي والأيام إلى مصير واحد؟

«أنا والغريب على ابن عمِّي.. وأنا وابن عمِّي على أَخي..
وأَنا وشيخي علىَّ».. هذا هو الدرس الأول في التربية الوطنية الجديدة، في أقبية الظلام.

بعض الفقهاء يقول: رُبَّ عَدُوٍّ لك ولدته أمّك!

لا يغيظني الأصوليون، فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة. ولكن، يغيظني أنصارهم العلمانيون، وأَنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلاّ بدين وحيد: صورهم في التليفزيون!

ثم صرخ في قائلًا: لو امتد بي العمر لقلت سجل أنا عربي وأرفض الإرهاب.

قلت: الله عليك يا عم درويش فعلا دول عملوا أنفسهم كأنهم أنبياء منزهون عن الأخطاء وشيوخهم وفقهاوهم ملأوا حياتنا بكل ما هو غث.

قال: إنها تجارتهم التي يجيدونها ولا يجيدون غيرها، وكما قلت في كتابي «أثر الفراشة»: الفرق بين وجهتي نظر: الأول ينظر إلى صورته في الماء ويقول: لا أنا إلا أنا.. والثاني ينظر إلى الشمس ويقول: ما أنا إلا ما أعبد. وفي الليل، يضيق الفارق، ويتسع التأويل!

قلت: الناس هنا في مصر مخنوقون جدا من حماس..

قال مقاطعا: حماس ليست فلسطين، ومصر هي التي حملت قضية فلسطين على عاتقها، وقدمت لها ما لم يقدمه غيرها، ودينها في رقبة كل فلسطيني، أما حماس فهي عصابة - كما قلت لك- تحارب باسم الدين، ولا تختلف عن جماعتكم التي طرحتموها أرضا.

قلت: أنت مخنوق قوي من حماس زينا كدا...

قال: بل أرفض كل أنواع التجارة باسم الدين وآيات الله، ولا تنس أنني قاسيت من حماس بالتكفير والزندقة والخروج من الملة، وأذكر أنه في عام 2006 قامت بلدية محافظة قلقيلية في الضفة الغربية -التي كانت برئاسة حركة حماس في ذلك الوقت- بمنع احتفال موسيقي وراقص في حديقة الحيوانات، وكان لي موقف شديد تجاه ذلك، فاتهمت في ديني وقتها، ورفضت العمليات الاستشهادية ووصفتها بأنها ليست أيديولوجية، بل موقف يأس، فتصدوا لي وأنكروا علىّ قولي.

قلت: طبعًا علمت أن أمريكا تستعد لضرب سوريا..

فرد غاضبًا: أمريكا أكبر راع للإرهاب في العالم، وتدعي أنها تحارب الإرهاب، إنها تبحث عن التحالف الدولي بين قادة الإرهاب بالاشتراك مع أحفاد أبو لهب، وهي كما دمرت العراق تريد أن تنقض على سوريا
وهم من قلت فيهم:
يدخل الطيران أفكاري ويقصفها
فيقتل تسع عشرة طفلة
يتوقف العصفور عن إنشاده
والموت يأتينا بكل سلاحه الجويّ والبريّ والبحريّ
ألف قذيفة أخرى …. ولا يتقدم الأعداء شبرًا واحدًا
ما زلت حيًا – ألف شكرٍ للمصادفة السعيدة
يبذل الرؤساء جهدًا عند أمريكا لتفرج عن مياه الشرب
كيف سنغسل الموتى؟
ويسأل صاحبي:
وإذا استجابت للضغوط فهل سيسفر موتنا عن
دولةٍ …… أم خيمـةٍ؟
قلت: انتظر! لا فرق بين الرايتين..
قلت: انتظر حتى تصب الطائرات جحيمها!
بيروت ….. ظهرًا
يستمر الفجرُ منذ الفجر
تنكسر السماء على رغيف الخبز
ينكسر الهواءُ على رءوس الناسِ من عبء الدخان
ولا جديد لدى العروبة!

قلت: إن أمريكا تدعي أنها الشرطي الذي يدافع عن قيم الإنسانية، وهي أول من ينتهك هذه القيم..

فقال: لقد أخذت من وقتي الكثير، وأنا مجهد ومتعب، وأود أن أخلد للراحة...

فقلت: كما تشاء يا أستاذي..
فأخذت أتلو تعاويذي وطلاسمي حتى ذهبت روحه سالمة من حيث أتت
ثم تناولت الديوان واخذت أقرأ:
وحدنا نصغي إلى رعد الحجارة
وحدنا نصغي لما في الروح من عبثٍ ومن جدوى
وأمريكا على الأسوار تهدي كل طفل لعبة للموت عنقودية
يا هيروشيما العاشق العربي
أمريكا هي الطاعون، والطاعون أمريكا
نعسنا. أيقظتنا الطائرات وصوت أمريكا وأمريكا لأمريكا
وهذا الأفق أسمنتٌ لوحشِ الجو
نفتحُ علبةَ السردين، تقصفها المدافعُ
نحتمي بستارة الشباك، تهتز البناية، تقفز الأبواب
أمريكا وراء الباب
أمريكا
يخرج الشهداء من أشجارهم، يتفقدون صغارهم
يتجولون على السواحل، يرصدون الحلم والرؤيا
يغطون السماء بفائض الألوان، يفترشون موقعهم
يسـمـّون الجزيرة، يغسلون الماء، ثم يطرزون حصارنا
قططًا…. ونخلا !