وحيد عبد المجيد

فى غياب ثقافة الديمقراطية، يتكبد الساعون إلى ضمان حرية التعبير مشقة هائلة فى إقناع غيرهم بأن هذه الحرية لا تخلق فوضى، ولا تحمل أخطاراً، ولا تؤدى إلى مصائب ورذائل، بل على العكس توفر الظروف الملائمة لكى تتفتح الزهور، وتتعدد الآراء والبدائل الضرورية لحل مشاكل كبرى متراكمة عبر عقود.

لكن هذه المشقة تزداد عند محاولة إقناع من يبنون خوفهم المدهش من حرية التعبير على افتراضات خيالية، أو قد يكون بعضها أغرب من الخيال.

ومن هذه الافتراضات التى طُرحت خلال النقاش حول حرية التعبير، باعتبارها «حججاً» تبرر النص فى مشروع الدستور على وقف الصحف وإلغائها أو إغلاقها، افتراض طريف وُضع على المائدة فى صورة سؤال يقول: ماذا نفعل لو أُصدرت صحيفة أو مجلة «بورنو» مثلا؟

وبدا السؤال الافتراضى لأصحابه منطقياً جداً وكافياً لحسم النقاش مادامت حرية الإصدار الصحفى مكفولة للجميع. فقد أصر أنصار حرية التعبير على أنه قد حان الوقت لتعيش مصر وضعاً طبيعياً للمرة الأولى بعد عقود طويلة، وأن يكون إصدار الصحف بمجرد الإخطار بحيث لا يتحكم أحد فى حق أساسى من حقوق المصريين، فيمنح الترخيص لمن يريد، ويحجبه عمن لا يرضى عنه.

ولذلك شعر بالخوف من يظنون أن فتح باب الحرية يصيب المجتمع بالبلاء، وكان طبيعياً حين يبلغ الخوف من حرية إصدار الصحف هذا المبلغ أن يسأل كاتب السطور عن الخطر العظيم أو المصائب الكبرى، التى يمكن أن تترتب على ما يُنشر فى أى صحيفة أو مجلة، وأن يطلب مثالاً محدداً يوضح ذلك، ويمكن القياس بناء عليه.

وكم كان الأمر مدهشاً عندما جاءت الإجابة بأمثلة من وحى خيال أكثر من خصب، وفى مقدمتها أن يستغل البعض حرية الصحافة لإصدار مجلات «بورنو». فماذا يمكن أن نفعل إذا لم يكن فى الإمكان إلغاء مثل هذه المجلات أو إغلاقها؟ هكذا كان السؤال الذى يمثل «الحجة» الدامغة، التى تؤكد خطر السماح بحرية إصدار الصحف بالإخطار دون أن تكون هناك إمكانية لإغلاقها.

فكان ضرورياً، والحال هكذا، شرح كيف أن إصدار «مجلة بورنو» فى مصر- أو أى بلد شرقى على وجه العموم- ليس سوى افتراض أكثر من خيالى، لانعدام أى من المقومات التى يمكن أن تجعله قابلاً للتحقق بأى درجة. فصحافة «البورنو» فى الغرب لا تهدف إلى نشر صور عراة أو مشاهد جنسية، ولا تسعى إلى الإثارة، وإلا ما وجدت قارئاً يشتريها، لأن مثل هذه الصور لا تغرى أحداً فى بيئة اجتماعية وثقافية تسمح بالحرية الجنسية فى الواقع المعاش.

ولذلك فهذه مجلات متخصصة فى الثقافة الجنسية، وما الصور التى تُنشر فيها إلا لخدمة تحقيقات أو تقارير صحفية أو مقالات تطرح أفكاراً أو تناقش قضية أو أخرى من القضايا المتعلقة بثقافة مرتبطة ببيئة محددة، ونمط معين من الحياة، وما أبعدنا نحن فى مصر، والشرق كله على اتساعه، عن هذا النمط وتلك البيئة، ولذلك لا يمكن أن يوجد لدينا متخصصون فى هذا النوع من الصحافة لكى يصدروا صحف «بورنو»، الأمر الذى يجعل افتراض حدوث ذلك إمعاناً فى الخيال، وعندئذ يتعذر الاستناد إليه والمجادلة به لإظهار خطر وقف الصحف أو تعطيلها وإلغائها أو إغلاقها.

فإذا صار مثل هذا الافتراض، الذى يتجاوز الخيال، حجة رئيسية ضد حرية التعبير، فهو يعنى أن الخائفين من هذه الحرية يعيشون بين جدران خوف مقيم فى داخلهم يجعلهم فى خيالاتهم هائمين.

ومع ذلك، فلنحلق معهم فى هذا الخيال، ولنفترض أن افتراضهم تحقق، فما العمل إذن؟ الإجابة بسيطة، وهى إحالة من يفعل ذلك إلى المحاكمة بتهمة خدش الحياء. ففى غياب المقومات الثقافية والقيمية والمجتمعية والحياتية لإصدار صحافة «بورنو»، لن تكون أى مطبوعة يُطلق عليها هذا الوصف أكثر من نشرة تحوى صوراً لأشخاص عراة ومشاهد جنسية لا علاقة لها بالصحافة، ولا عمل مهنى من أى نوع فيها. فليست صحافة هذه، ولا علاقة لها بحرية التعبير من قريب أو بعيد، وما أسهل التصدى قانونيا لعمل إباحى يقع فاعله تحت طائلة القانون، الذى يعاقب على مثل هذا الفعل باعتباره خدشاً للحياء.

فيا من تخافون حرية التعبير التى لم تتقدم أمة دونها- خففوا من غلوائكم، وانزلوا من عالم الخيال إلى أرض الواقع.

أيها السادة..أين ميثاق شرف المهنة ؟
إن هذا المجتمع يعرف كيف يحافظ على نفسه من الفتن وليس فى حاجة إلى رقيب عليه ليعرفه كيف يحافظ على قيمه وأخلاقياته وهناك قوانين تعاقب مرتكبيها على الفعل الفاضح فمن السهل معاقبته والتصدى إلى مثل هذه الحالات .
أما على الجانب الأخر هناك ميثاق شرف لحرية الإبداع والفكر والذى من المفترض أن يوضع من قبل العاملين فى نفس المجالات المختلفه من الفن سواء الفن الصحفى والإبداعى وكاتبى الروايات ... إلخ

بحيث يكون الحكم من خلال ميثاقهم الذى أرتضوه لأنفسهم ويحمى حريتهم فى التعبير، وليس من خلال عقول متحجره لا تعرف غير الخيالات المريضة دون النظر إلى الفوائد التى تعود على االمجتمع من إبداع الفكر الحر الخالى من الأمراض.